top of page

الجــــــــريمة الصــــامتة... (الاتجار بالأعضاء البشرية)

د. أحلام القباطي

الجريمة الصامتة ( تجارة الأعضاء).jpg

ظهرت في الآونة الأخيرة أنواع جديدة من الجرائم وصلت في جسامتها إلى انتهاك حرمة الإنسان وآدميته، فهي تمثل انتهاكاً لكل معاني الإنسانية. وتصنف من الجرائم ذات الخطورة العالية نظراً لاجتيازها حدود الدولة الواحدة.

وقد أشارت تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية لعام 2015 أن هناك أكثر من (10.000) عملية بيع وشراء للأعضاء البشرية في السوق السوداء سنوياً، وما بين (5-10%) من جميع عمليات زراعة الكلى على مستوى العالم تتم عبر عمليات الاتجار والتهريب عبر الحدود، وتحقق أرباحًا سنوية تتراوح بين (600) مليون دولار و(1,2) مليار دولار، في حين ترفعها تقديرات أخرى إلى (8) مليارات دولار سنوياً.

وفي ظل الحروب والصرعات وما نتج عنها من أوضاع أمنية متردية في مجموعة من الدول، فضلاً عن عوامل أخرى ترتبط بالظروف الاقتصادية الضاغطة التي نتج عنها اتساع رقعة الفقر، إضافة إلى زيادة هيمنة التنظيمات الإرهابية، كل هذه العوامل وغيرها انبرى عنها انتشار الجريمة الصامتة (الاتجار بالأعضاء البشرية)، نظراً لما تدره من الأرباح المالية، وهو ما بدا جليّاً في اليمن والعراق وسوريا وليبيا ومصر والسودان ولبنان والأردن وتركيا وإيران، وفق ما ذكرته مجموعة من التقارير الدولية والإقليمية.

      في هذا الصدد – وعلى سبيل المثال لا الحصر- تناول موقع  أراب ويكلى البريطاني ((AW في أحد التقارير ظاهرة تجارة الأعضاء البشرية أشار فيه إلى أن العراق قد أصبح محوراً في تجارة الأعضاء التي يبيعها سماسرة وعصابات متعددة.

وفي سوريا أجرت صحيفة البعث تحقيقاً بعنوان "تجارة الأعضاء.. نشاط تجاري تحت غطاء التبرع!"  ذكرت فيه جملة من الأسباب التي تقف وراء انتشار ظاهرة الاتجار بالأعضاء من بينها ازدياد نسبة الفقر وانتشار عصابات تضم منظمات طبية وسماسرة، وذكرت أن هؤلاء مرتبطون بالخارج ويعملون تحت غطاء التبرع في إطار عمليات تتم عبر دول هدفها التآمر على سوريا بكل الوسائل على حد تعبير الصحيفة. وفي ذات الوقت صارت ليبيا أيضاً مرتعاً لعصابات الاتجار بالأعضاء.

تزايد عدد أعضاء الشبكات الإجرامية للاتجار بالأعضاء البشرية الذين يعملون وفق شبكات منظمة إقليمياً ودولياً، ويمثلون سرباً من الوسطاء بين الطرفين (المريض والمتبرع)، وينتحلون صفات متعددة منها: عمال إغاثة، ناشطون في منظمات مدنية، صحفيون، ويكونون موجودين في المؤسسات العلاجية والمواقع الإلكترونية والمقاهي الشعبية. يحمل بعضهم تخصصات في الاتجار بأعضاء بعينها، حيث يعملون على إجراء التجهيزات الخاصة بالمتبرع وتنفيذها، ويعملون على اختيار عينات التحاليل ومتابعة عملية حجز تذاكر السفر وتسديد المبالغ المالية لبائع أعضائه وتوقيع تعهدات إجراء العملية الجراحية بشكل سري ومنظم.

وأشارت أيضاً بعض التقارير إلى أن الشبكات الإجرامية تضم أطباء وأعضاء هيئة تمريض، وأصحاب مراكز ومختبرات طبية، وأساتذة جامعات ووسطاء وسماسرة، بل وبعض الشخصيات التي تعد أمنية في الدول، وتضم كذا أصحاب سوابق إجرامية. إنها تجارة عابرة للحدود الرخوة، تشتد وتيرتها في البلدان التي تسيطر عليها الحروب والصراعات وينهشها الفقر.

    وفي اليمن، يعاني البلد من ويلات الحرب والصراعات المستمرة، إلى جانب إرث طويل من غياب القوانين الرادعة وغياب الرقابة في ظل صراع طبقي متوحش تلاشت فيه أغلب القيم الإنسانية، حيث أصبح البقاء فيه للأقوى، يعيش فيه الغني على حساب الفقير والضعيف الذي قد يُضطر بعد مرارات المعاناة إلى بيع قطعة من جسده كي يمنح الحياة لمن يعولهم.

والحقيقة أن المجرمين يستدرجون الضحايا تحت مسميات عدة منها التبرع، حيث يتم إغواؤهم بالمال وفرص العمل الكاذبة، مستغلين تردي وضعهم المعيشي. ووفقاً لتقرير صدر عن البنك الدولي فإن أكثر من (80%) من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، وتفوق نسبة البطالة (60%).

  كل ذلك، إلى جانب الحرب  والصراعات الداخلية وانهيار الاقتصاد اليمني الذي هو ضعيف أساساً منقبل 2015، قد أدى إلى انتشار  ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية في السنوات الأخيرة، و ظهرت  شبكات إجرامية  تُشكِّل في مجموعها مافيا منظَّمة يدعمها  حشد من السماسرة الذين يكونوا شبكة تبدأ من داخل اليمن وتمتد  أذرعها إلى الخارج الذي  يدأب على اصطياد الضحايا من الفقراء والطبقات المعدمة والنازحين  داخلياً وخارجياً، ولاسيما من الفئات ذات المستوى التعليمي المنخفض، فيعملون على إقناعهم على بيع أعضائهم مثل الكلى أو أجزاء من الكبد مقابل أثمان بخسة، وغالبًا ما يتم إغراؤهم بالسفر إلى خارج اليمن  في عملية استدراج منظمة - حسب ما أشارت  إليه العديد من التحقيقات التي نشرت بين 2014 و2020-؛ بل لقد ذهبت بعض التحقيقات إلى الإشارة نحو تورط جهات وشخصيات ذات نفوذ في اليمن تقف خلفهم وتتكسب من خلال ذلك، كما بيَّن أحد السماسرة المصريين بقوله: "الموضوع شبه مستحيل دون أن يكون هناك جهات حكومية تسهل لنا الأمور في نقلهم إلى خارج اليمن وهناك أسماء كبيرة يتعاونون معنا".

  وأفاد أحد تقارير الخارجية الأمريكية 2020 أن اليمن يتصدر التصنيف الخامس عربياً والخامس عشر عالميّاً ضمن أسوأ الدول التي ينتشر فيها تجارة الأعضاء البشرية، بعد أن كان في التصنيف رقم عشرين عالمياً عام 2016، مما يعني زيادة انتشار الجريمة خلال السنوات الأربع الأخيرة بشكل ملحوظ، وما جريمة سفَّاح كلية الطب أحمد آدم 2002 وجريمة قتل عبد الله الأغبري في 2020 -وغيرها من الجرائم في أغلب المحافظات اليمنية التي يتم التعمية عليها- سوى مؤشر على الجريمة التي تتم بصمت وتواطؤ.

ومن المؤسف أيضاً القول إن اليمن لم يوقع بعد على بروتوكول الأمم المتحدة الخاص بتجريم الاتجار بالبشر ومعاقبة الفاعلين، ولعل هذا من العوامل الأساسية التي انبثق عنها غياب دور الجانب الرسمي حول أهمية الحد من جريمة الاتجار بالأعضاء، مما أدى إلى زيادة انتشار الجريمة وبأشكال متعددة، منها سهولة الحصول على الوثائق الرسمية المزورة لآلاف الضحايا التي يتم من خلالها إثبات صلة قرابة بين المريض والمتبرع وهي مزورة وصادرة عن جهات رسمية.

وإذا ما عدنا إلى الجانب التشريعي فسنجد شبه إجماع لدى الفقهاء المسلمين في عدم جواز بيع الإنسان لأي من أعضائه بغرض المتاجرة أو الكسب مهما كانت المبررات؛ لأن الإنسان ليس سلعة تباع وتشترى، إنما هو مخلوق كرمه الله وله حرمته حيًّا وميتًا، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يبيع المسلم أعضاءه.

 في الوقت ذاته لاتزال القوانين الخاصة بجريمة الاتجار بالأعضاء البشرية يعتريها الضعف والقصور مما ساهم في انتشارها، وهو ما ينطبق على العديد من الدول العربية التي لا تعترف إلا بالتبرع وتناهض البيع؛ لذا أصبحت عمليات بيع الأعضاء وزرعها تُدار من خلف الكواليس وبصور مختلفة، ظاهرها الجواز مثل مسمى التبرع وباطنها الاتجار والتهرب من المخالفات القانونية ومن تحمل تبعات المخاطر الصحية المصاحبة لعملية نقل الأعضاء من شخص لأخر.

  وتعد إيران الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تجيز التبرع بالأعضاء البشرية لإنسان على قيد الحياة بمقابل مادي يصل إلى (300) جنيه إسترليني، مما جعل تجارة الأعضاء فيها جريمة مقننة، في حين تنتشر السوق السوداء لتجارة الأعضاء البشرية في بقية دول الإقليم.

وبالنسبة للقانون اليمني فإنه لا ينص على تجريم الاتجار بالأعضاء البشرية، وهو ما يؤدي إلى الإفراج عن بائعي الكلى. وقد ذكرت مصادر عن الحكومة اليمنية، في عام 2012، عن انتشار ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية بعد قيام عصابات بتهريب يمنيين من داخل البلاد إلى مصر للمتاجرة بأعضائهم قبل اندلاع الحرب والصراعات الأخيرة التي دخلت عامها السابع وفاقم استمرارها من انتشار الجريمة الصامتة.

يفيد أحد الضحايا (غمدان الدقيمي) الذي انتشرت حكايته المؤلمة في عدد من المواقع الإلكترونية أن كثيراً من اليمنيين -معظمهم عمال في مطاعم أو عاطلون عن العمل- يتم استدراجهم لبيع أعضائهم، فيما يتعرض بعضهم للسرقة، بينما لا يحصل آخرون إلا على مبالغ ضئيلة لا تتجاوز خمسة آلاف دولار مقابل الكلية على سبيل المثال لا الحصر.

وللأسف لا توجد إحصائيات تحدد حجم ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية في اليمن، لكن هذا لا يعني عدم وجود ظاهرة التجارة بالأعضاء، إذ أن التكتم أو السرية التي تصاحب هذه الممارسات الإجرامية تجعل من الصعوبة تحديد حجم هذه الجريمة وعدد الأعضاء التي يُتاجَر بها سنوياً.

ختاماً، لا بد من اتخاذ خطوات سريعة وملموسة للحد من انتشار هذه الجريمة، منها:

  1. المطالبة بتحقيق دولي محايد في هذه القضية الخطيرة والعمل على كشف كل الجهات والأطراف المتغاضية عن الجريمة أو المسهلة لحدوثها للعمل على إيقاف الانتهاكات الإنسانية بحق الفقراء والضعفاء وضحايا التغرير.

  2. الإسراع في المحاكمة العادلة للمتورطين في هذه الجرائم البشعة.

  3. العمل على سن قوانين وتشريعات صارمة ورادعة لكل من تسول له نفسه بانتهاك حقوق الآخرين واستغلالهم وشراء أعضائهم أو إجبارهم على التبرع بها.

Name, Title

.تحليل ذو قيمة

bottom of page