الراتب حياة
د. عبد القوي حزام الشميري
أدى الصراع المسلح في اليمن إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة في بلد هو الأفقر على مستوى المنطقة العربية وربما على مستوى العالم ، فعلاوة على ما أحدثه من دمار وخراب في البنية التحتية، ونزوح وتشرد وغلاء معيشة وانهيار لقيمة العملة فإن انقطاع الراتب عن الموظف اليمني منذ أربعة وخمسين شهراً يُعد الأكثر إيلاماً والأشد قسوة والأعمق جرحاً.
لم يخطر ببال أحد أن يسوء الوضع الإنساني في "اليمن السعيد" إلى هذا الحد، وأن تتوقف رواتب الموظفين التي كانت هي أقل الرواتب على مستوى العالم، فمنذ سبتمبر 2016 - وهو الشهر الذي بدأ فيه انقطاع الرواتب - تستمر معاناة الموظفين وتسوء حالهم يوماً بعد يوم. ومع أن تأثير انقطاع الرواتب قد شمل كل موظفي الدولة فإن تأثيره الأعمق كان على أكاديمي الجامعات وموظيفها وعلى التربويين الذين يشكل الراتب لغالبيتهم مصدر الدخل الوحيد؛
فبعد أربع سنوات من الصمود الأسطوري أمام غلاء المعيشة، وارتفاع الإيجارات، وزيادة الرسوم الدراسية، وراتفاع أسعار الوقود والغاز والعلاج، استنفذوا كل ماكان بحوزتهم من نقود أوممتلكات أو مجوهرات.
ليس هذا وحسب، بل إن شهادة الدكتوراه بعد أن كانت مصدر فخر لصاحبها وأسرته أصبحت اليوم نقمةً وبلاء على حامليها، فمن جهة أصبح المؤجر- على سبيل المثال- يرفض أن يؤجر عقاره إذا كان المستأجر أستاذاً أكاديمياً، ومن جهة أخرى أصبح اللقب الأكاديمي الذي يحملونه مكبلاً لهم يحول بينهم وبين ممارسة أي أعمال أوحرف تمكنهم من العيش بكرامة. مع هذا - ولأجل بقائهم ومن يعيلون على قيد الحياة- فقد اضطر بعضهم إلى ممارسة أعمال لم يعتادوا عليها،
وبعضهم الآخر اتجه إلى بيع القات أو إلى العمل على سيارات الأجرة أو الدراجات النارية أوفي المخابز أو بيع الذرة الشامية أمام صالات الأفراح والمتنزهات، وبعضهم إما انتقل إلى قريته واستعاد مهنة آبائه وأجداده في الزراعة أوحُبٍسَ داخل بيته بسبب جلطة أو اكتئاب نفسي، وقليل منهم من "حالفه الحظ" وهاجر إلى خارج الوطن ليبدأ مرحلة الاغتراب الثانية.
من كان يعتقد أن شهر رمضان الكريم الذي سيحل علينا بعد أيام قد أصبح في ذهن الأكاديمي مرتبطاً بسلة غذائية لا يتجاوز سعرها الـ(20000) ريالٍ من هذا التاجر أوذاك؟! سيقول قائل: "مازال هناك من يعمل في الميدان". نعم! لكنهم في الرمق الأخير. صدقوني، إنهم يحتضرون.
عندما نتحدث عن انقطاع الراتب لا نتحدث فقط عن الجانب المادي، بل عما هو أخطر وأبعد من ذلك؛ فقبل ثلاث سنوات في إحدى لقاءات مجلس التنسيق الأعلى لنقابات الجامعات الحكومية مع رئيس وزراء اليمن السابق بشأن رواتب منتسبي الجامعات، وكنت من ضمن أعضائه، كان قد حملني أحد أعضاء هيئة التدريس في إحدى الجامعات رسالة إلىه مفادها "سيادة رئيس الوزراء.. لقد عَلَقتُ الحبل" إشارةً الى حبل المشنقة. وقبل أيام فقط كتب دكتور جامعي في إحدى مجموعات التواصل الإجتماعي في جامعته نداء استغاثة يقول فيها حرفيا: "يا إخوتي أمس طردونا من الشقة، وعفشي في الشارع، واليوم أنا وأهلي بدون غداء ولا عشاء إلى الآن.. جاوعين.. خافوا الله.. من يغير علينا.. تبهذلنا". هاتان الرسالتان لايجب أن تقرأا بشكل فردي، وليستا محصورتين على أكاديمي الجامعات ومثقفي الأمة وصانعي أجيالها فقط، إنما تختزلان الحالة المأساوية التي وصل إليها مئات الآلاف من موظفي الجمهورية اليمنية؛ فهم يجوعون ويتألمون ويموتون بصمت وقد يصرخون بصوت عالٍ إنما ما من مجيب.
أتذكر أنه في نهاية عام 2016 رفع المجلس الأعلى لنقابات الجامعات شعار "الراتب حياة" وكان لهذا الشعار مدلول عميق فـ"الحياة" لم يقصد بها الحياة الجسدية وحسب، بل أيضاً الحياة النفسية والفكرية
والمعرفية. وعكس الحياة الموت، وليس بالضرورة الموت الجسدي وإنما الموت النفسي والفكري والمعرفي، الموت الأخلاقي، موت الكرامة والكبرياء.
إن قطع الراتب واستخدامه ورقةً سياسيةً تفاوضيةً منافٍ للشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وانتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وكرامته، بل هو قضاء على حياته.
أي جريمة تمارس بحق موظفي اليمن بشكل عام وبحق أكاديميي ومنتسبي الجامعات والتربويين بشكل خاص أكبر من هذه ؟! إنها جريمة بحق صانعي أجيال اليمن. إنها جريمة تمارس بحق جيل بأكمله.
يا من توليتم مسؤولية هذا الشعب المكلوم، أو بالأحرى يا من تدَّعون أنكم توليتم مسؤولية هذا الشعب المغلوب على أمره نقول لكم:
"إنكم تغتالون الحاضر والمستقبل. إن قطع الراتب عن الموظفين - وبالتحديد على شريحتي التربويين وأكاديمي الجامعات- يشكل كارثة كبرى، ليس على الموظف وعائلته وحسب؛ بل على المجتمع بأسره، لأن منتسبي هاتين الشريحتين هم المفكرون والمعلمون والمربون وصانعو الأجيال، وعلى الجميع أن يدرك أن البطون الجائعة لا تنتج فكراً والأمعاء الخاوية لا تصنع جيلاً ولا تبني مستقبلا".
Name, Title
.تحليل ذو قيمة