التخطيط والتنمية المستدامة
د. أحلام القباطي
بعد الحرب العالمية الثانية نال موضوع التنمية والتخطيط الاستراتيجي اهتماما كبيرا، سواء على مستوى الحكومات أم الأفراد. فزاد في الوقت نفسه انقسام دول العالم إلى بلدان متقدمة وأخرى نامية. منها دول غنيـة تضمّ أقل من خمس سكان العالم وتحصل على ثلثي الدخل العالمي، وأخرى دول فقيرة تعيش مأساة الفقر والتخلف، بالرغم من أن أغلبها يمتلك موارد طبيعية مهولة، ومنها اليمن. إذ يقطن في هذه الدول النامية أكثر من ثلثي سكان العالم، في حين يقلّ نصيبها عن سبع الدخل العالمي. ومن الأخيرة دول متوسطة الدخل، تضم أقل من سبع سكان العالم، وتحصل علـى خمس الدخل العالمي.
يعتبر التخطيط عملية يتمّ من خلالها رسم برامج المستقبل على أسس منهجية واضحة، ذات أهمية كبيرة وضرورية لتقدّم الدول، وتغيير أوضاعها إلى الأفضل. أما التنمية، فهي عملية استراتيجية مخططة لتحقيق زيادة تراكمية متعمدة الأبعاد وطويلة الأمد، تحتاج إلى دعم مستمرّ بجهود منظمة تنقل المجتمع من حالة الركود والتخلف إلى حالة التقدم والتطور.
وفي هذا السياق أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى أن مشكلة البلاد النامية ليست في حاجتها إلى مجرد النمو الاقتصادي فحسب، وإنما حاجتها الملحة للتنمية المستدامة، وفقًا لاحتياجات شعوبها الفعلية، سواء الاجتماعية أم الاقتصادية أم البيئية.
وقد تعددت المحاولات الهادفة إلى تحديد مفهوم التنمية، حتى أصبح من المفاهيم الشائعة لدى الأفراد أو الهيئات، ولدرجة أحدثت نوعًا من اللّغط بينها وبين مفاهيم أخرى كالتقدم والتطور والنمو الاقتصادي. ويُعتَبَر الاقتصادي "شومبيتر" أول من حاول التمييز بين النمو الاقتصادي والتنمية. فقد رأى أن النمو يحدث عادة بسبب نمو عدد السكان والثروة والموارد ومستوى الإدخار. في حين أن التنمية تنتج عن التطوّر والابتكار والتغيير للأفضل. فالنمو يتمثل في حدوث تغيّرات كمية في بعض المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية. أما التنمية فتتضمّن حدوث تغيرات في مختلف المتغيرات النوعية والكمية. ويتضح من ذلك أن النمو يسبق التنمية ويحدث على المدى القصير، في حين أن التنمية ظاهرة تحدث على المدى البعيد، ولا يمكن الحكم عليها إلا بعد مضي فترة زمنية طويلة نسبيًا.
وجاء في تعريف هيئة الامم المتحدة لعام 1956 أن التنمية هي حزمة من الإجراءات التي بها يتمّ توحيد جهود الافراد والحكومة لتحسين الأحوال الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية، والصحية في المجتمعات، للدّفع بها نحو الاندماج في حياة الدول المتقدمة والمساهمة في تقدمها بأقصى قدر مستطاع.
إلى ذلك يتّفق كلّ من "سلتز" و "روستو" W. Rostow على اعتبار أن التنمية تكون بتخلي المجتمعات النامية عن السمات التقليدية السائدة فيها، وتعمل على تبني الخصائص السائدة في المجتمعات المتقدمة، حيث أن النظم الادارية في المجتمعات النامية تتسم بالبيروقراطية والتعقيد في الإجراءات واتخاذ القرارات وهذا يؤثر على عملية التخطيط التنموي المناسب ومستوى تحقيق أهدافه.
من المؤسف القول أن المكوّن الاجتماعي في الدول النامية يعتبر أحد تحديات التنمية المستدامة. لذا يتوجب على هذه الدول وضع استراتيجيات مناسبة للتخطيط التنموي. وتغدو من الأولويات عند وضع سياسات للتخطيط الاستراتيجي، إذ أن التخطيط التنموي يعرف بأنه المسار الذي يسعى من خلاله صانعو القرار لرسم خارطة منهجية لحلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وتهيئة التفكير الجمعي لتحقيق أهداف التنمية للبلد، وذلك من خلال تهيئة الافراد والجماعات وسنّ قوانين وتشريعات لتنظيم وتحسين حياة المجتمع. ولا ريب أن أهم مرحلة في التخطيط التنموي تبدأ بتهيئة المجتمع، من خلال نظام تعليمي متزن مع متطلبات المرحلة، يتماشى والتطورات العلمية والتخصصية المتعددة، على مستوى كافة المجالات، وبعيد عن التسييس أو المماحكات السياسية.
ويشير علماء الاجتماع والتنمية إلى أن تطوير أي مجتمع يكون بمشاركة أفراد المجتمع أنفسهم في الجهود التي تبذل لتحسين مستوى المعيشة، في محيطهم، بعد تزويدهم بالمهارات والامكانات والخدمات اللازمة لمساعدتهم، وبأسلوب يحفّز على الاعتماد على النفس والمشاركة الإيجابية، ولتحقيق ذلك لابد من أن يتحلوا بدرجة عالية من التعايش فيما بينهم.
وتطرّق آخرون إلى أن التنمية هي التحرك المنهجي، وفق تخطيط استراتيجي لمجموعة من العمليات الاقتصادية، والاجتماعية والتعليمية، تتم من خلال أيدلوجية معينة لتحقيق التغيير المرجو، من أجل الانتقال بالمجتمع من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب الوصول إليها.
وبذلك وجب مراعاة التخطيط التنموي الشامل، بحيث يغطي كافة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والثقافية والبشرية، وهذا ما تتبعه الدول المتقدمة مثل اليابان، ودول الاتحاد الأوربي، عبر اعتمادها على رأس المال البشري، لتحريك مؤسساتها عن طريق إمدادها بالموارد البشرية ذات المهارة العالية، فما يميّز التخطيط هي النظرة الشمولية، بحيث لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب.
أسس التخطيط المناسب لتحقيق التنمية:
-
وضع الخطط التنموية المختلفة، وما تتضمنه من برامج، ومشروعات، للتنفيذ يتطلب تحديد الاحتياجات للأفراد والمجتمعات بشكل منهجي سليم. فالتخطيط الجيد يعتبر الوسيلة التنظيمية المتكاملة التي تساعد على تحقيق الغايات التنموية.
-
لكي تضع أية هيئة مدنية أو حكومية خطة استراتيجية، يجب أن تكون رؤيتها واضحة، لما تريد الوصول إليه، مع وضوح لآلياتها وأساليبها، التي بها ستحقق أهدافها، ومن الضّروري تحليـل مسبقًا ما هو متوقع بالضبط من الخطة الاستراتيجية، وماذا ستتضمن، وما هي العمليـات والأدوات التي ستدعمها، وكيف سيُقاس ويُرصد تنفيذها وإنجازها فعليًا، لاسيما الطّريقة التي سيتم بها التطور أثناء تكيفها مع البيئة العالمية المتغيرة، التي يتعين فيها، علـى هذه الهيئة، تقديم الخدمات المكلفة بها.
-
التخطيط الجيّد للعمليات التنموية المختلفة تؤدي إلى تنسيق الجهود وعدم تعارض الخطط، فتحقّق بذلك توفيراً في تكاليف التنفيذ والوقت اللازم لإنجازها، فيضمن بذلك سلامة التنفيذ والوصول إلى الغايات المرجوة بأقل التكاليف وبمدة زمنية مناسبة.
-
يعمل التخطيط التنموي الجيد على طرح الحلول للصعوبات والمعوقات المحتملة الوقوع في كل مراحل التنفيذ فيستثمر الإمكانيات البشرية والاقتصادية والطبيعية والإدارية والسياسية لمواجهتها. ويتمثل حسن استخدامها بشكل مؤثر لتحقيق الأهداف التنموية المختلفة، ما يؤدي إلى نجاح الخطة واستدامة أثرها التنموي.
-
للوصول إلى الأهداف التنموية، بعيدة المدى، لا بدّ من التخطيط المناسب، الذي يساعد على وضع خطط مناسبة للموارد، والإمكانات والقدرات، لتحقيق الأهداف النهائية.
وختاماَ، قد ارتبط مفهوم التنمية بالجانب الاقتصادي لفترة طويلة، بينما هو أوسع من ذلك، إذ يتناول تنمية رأس المال البشري، وتنمية الموارد البشرية، وتنمية المجتمع المحلي اجتماعيا، وبيئياَ، وثقافيا وتكنولوجياً واقتصادياَ.
إن مفهوم التنمية يتمثّل في كونها عملية تتمّ وفقًا لتخطيط استراتيجي، ووفقا لمتطلبات الشعوب والبلدان، وهي موجّهة في مجالات متعدّدة، تحدث تغييرًا في المجتمع، لتحسين أوضاعه وظروف أفراده، من خلال تلبية متطلبات المجتمع وإزالة العقبات وتحقيق الاستغلال الأمثل للإمكانات والطاقات والموارد المختلفة؛ بما يحقّق التقدّم والنمو الاجتماعي والرفاهية والاستقرار لأفراد المجتمع.
علاوةً على ذلك، يُعتَبَر التخطيط التنموي المحرك الأساسي لاتجاهات نشاطات التنمية والإعمار ويتطلب درجة عالية من التناسق بين أولويات متطلبات المجتمع، وبين كافة المشاريع التنموية، سواء كانت اقتصادية أم جتماعية، أم سياسية أم أمنية أم بحثية، وكذلك برامج الإنتاج العلمي والتقني. ويهدف التخطيط التنموي لتحقيق مجموعة من الغايات وتحويلها إلى واقع ملموس خلال فترة زمنية معينة ووفقًا لإجراءات محدّدة. ويجب أن تسير الخطط التنموية وفق تناسق تام، وفي خطوط متوازية لكافة المجالات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ينبغي على صانعي الخطط الإستراتيجية والإعمارية والتنموية الانخراط في مسار تشاركي مع أفراد المجتمع للتخطيط التنموي، ذلك لأن أفراد المجتمع هم الأكثر إدراكًا لمتطلباتهم، وأكثر وعيًا بكيفية تحقيقها. وعندما يكون لأفراد المجتمع دور في التخطيط التنموي يشعرون أن أية خطة تطبّق هي خطتهم وسيسعون جاهدين لإنجاحها، ونادراً ما يكون هذا الأمر متوفّرًا بالنسبة للخطط المفروضة على المجتمع المحلي من الخارج. سبب آخر يدعو العديد من المنح الدولية إلى المشاركة المجتمعية كواحدة من متطلبات التمويل للمشاريع والبرامج التنموية
Name, Title
.تحليل ذو قيمة